فصل: المجلد الثاني عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 كتــــاب القرآن كلام الله حقيقة

/بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

قال الشيخ الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رضي الله عنه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ‏{‏لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏28‏]‏ صلى الله عليه وسلم تسليمًا‏.‏

/ قاعدة في القرآن وكلام الله‏:‏

فإن الأمة اضطربت في هذا اضطرابًا عظيمًا، وتفرقوا واختلفوا بالظنون والأهواء بعد مضي القرون الثلاثة، لما حدثت فيهم الجهمية المشتقة من الصابئة، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏176‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏231‏]‏‏.‏

والاختلاف نوعان‏:‏ اختلاف في تنزيله، واختلاف في تأويله‏.‏

والمختلفون الذين ذمهم الله هم المختلفون في الحق؛ بأن ينكر هؤلاء الحق الذي مع هؤلاء، أو بالعكس؛ فإن الواجب الإيمان بجميع الحق المنزل، فأما من آمن بذلك وكفر به غيره فهذا اختلاف يذم فيه أحد الصنفين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ / ‏{‏وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏253‏]‏، والاختلاف في تنزيله أعظم، وهو الذي قصدنا هنا، فنقول‏:‏

الاختلاف في تنزيله هو بين المؤمنين والكافرين؛ فإن المؤمنين يؤمنون بما أنزل، والكافرون كفروا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله فسوف يعلمون، فالمؤمنون بجنس الكتاب والرسل من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين يؤمنون بذلك، والكافرون بجنس الكتاب والرسل من المشركين والمجوس والصابئين يكفرون بذلك‏.‏

وذلك أن الله أرسل الرسل إلى الناس لتبلغهم كلام الله الذي أنزله إليهم، فمن آمن بالرسل آمن بما بلغوه عن الله، ومن كذب بالرسل كذب بذلك، فالإيمان بكلام الله داخل في الإيمان برسالة الله إلى عباده، والكفر بذلك هو الكفر بهذا، فتدبر هذا الأصل، فإنه فرقان هذا الاشتباه؛ ولهذا كان من يكفر بالرسل تارة يكفر بأن الله له كلام أنزله على بشر، كما أنه قد يكفر برب العالمين؛ مثل فرعون وقومه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏2‏]‏، وقال تعالى ـ عن نوح وهود ـ‏:‏‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏63‏]‏ وقال‏:‏‏{‏وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏91‏]‏ إلى آخر الكلام، / فإن في هذه الآيات تقرير قواعد، وقال عن الوحيد ‏[‏هو الوليد بن المغيرة‏]‏‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏25‏]‏‏.‏

ولهذا كان أصل ‏[‏الإيمان‏]‏ الإيمان بما أنزله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏1 ـ 4‏]‏ وفي وسط السورة‏:‏‏{‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏136‏]‏، وفي آخرها‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ

إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏285 ،286‏]‏ الآيتين‏.‏ وفي السورة التي تليها‏:‏ ‏{‏الم اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏1 ـ 4‏]‏‏.‏ وذكر في أثناء السورة الإيمان بما أنزل، وكذلك في آخرها‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 193ـ 199‏]‏‏.‏

ولهذا عظم تقرير هـذا الأصل في القرآن، فتارة يفتتح به السورة إما إخبارًا كقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏ الآيــة ‏[‏هــود‏:‏1‏]‏‏.‏ وكـذلك الـ ‏{‏طـس‏}‏ والـ ‏{‏حـم‏}‏‏.‏ فعـامـة الـ ‏{‏الــم‏}‏ والـ ‏{‏الـر‏}‏، والـ ‏{‏طس‏}‏، والـ ‏{‏حم‏}‏ كذلك‏.‏

/وإما ثناء بإنزاله كقوله‏:‏‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏1‏]‏، ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ‏}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏1‏]‏‏.‏

وأما في أثناء السور فكثير جدًا، وثنى قصة موسى مع فرعون؛ لأنهما في طرفي نقيض في الحق والباطل؛ فإن فرعون في غاية الكفر والباطل حيث كفر بالربوبية وبالرسالة، وموسى في غاية الحق والإيمان من جهة أن الله كلمه تكليما لم يجعل الله بينه وبينه واسطة من خلقه، فهو مثبت لكمال الرسالة وكمال التكلم، ومثبت لرب العالمين بما استحقه من النعوت، وهذا بخلاف أكثر الأنبياء مع الكفار؛ فإن الكفار أكثرهم لا يجحدون وجود الله ولم يكن - أيضًا - للرسل من التكليم ما لموسى، فصارت قصة موسى وفرعون أعظم القصص وأعظمها اعتبارًا لأهل الإيمان ولأهل الكفر؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص على أمته عامة ليله عن بني إسرائيل، وكان يتأسى بموسى في أمور كثيرة، ولما بشر بقتل أبي جهل يوم بَدْر قال‏:‏ ‏(‏هذا فرعون هذه الأمة‏)‏، وكان فرعون وقومه من الصابئة المشركين الكفار؛ ولهذا كان يعبد آلهة من دون الله،كما أخبر الله عنه بقوله‏:‏ ‏{‏وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏127‏]‏ وإن كان عالما بما جاء به موسى مستيقنا له، لكنه كان جاحدًا مثبورًا، كما أخبر الله بذلك في قوله‏:‏‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ الآية ‏[‏النمل‏:‏13 ،14‏]‏ وقال تعالى‏:‏ / ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏101 ،102‏]‏‏.‏

والكفار بالرسل من قوم نوح وعاد، وثمود وقوم لوط، وشعيب وقوم إبراهيم، وموسى ومشركي العرب، والهند والروم والبربر، والترك واليونان والكشدانيين، وسائر الأمم المتقدمين والمستأخرين، يتبعون ظنونهم وأهواءهم، ويعرضون عن ذكر الله، الذي آتاهم من عنده، كما قال لهم ـ لما أهبط آدم من الجنة ـ‏:‏ ‏{‏قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏38، 39‏]‏ وفي موضع آخر‏:‏ ‏{‏قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا‏}‏ الآية ‏[‏طه‏:‏ 123، 124‏]‏‏.‏ وفي أخرى‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 35‏]‏‏.‏

ثم إنهم مع أنهم ما نزل الله بما هم عليه من سلطان، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، يزعمون أن لهم العقل والرأي والقياس العقلي والأمثال المضروبة، ويسمون أنفسهم الحكماء والفلاسفة، ويدعون الجدل والكلام، والقوة والسلطان والمال، ويصفون أتباع المرسلين بأنهم سُفَهاء، وأراذل وضُلاَّل، ويسخرون منهم، قال الله تعالى‏:‏‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏83‏]‏ وقال‏:‏‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏29 ـ 33‏]‏ وقال تعالى ـ عن قوم نوح ـ‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏111‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏72‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏212‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏38‏]‏، بل هم يصفون الأنبياء بالجنون والسَّفَه والضلال وغير ذلك، كما قالوا عن نوح‏:‏ ‏{‏مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏9‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏60‏]‏ ولهود‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏66‏]‏‏.‏

 

فصــل

والإيمان بالرسل يجب أن يكون جامعًا عاما، مؤتلفًا لا تفريق فيه، ولا تبعيض ولا اختلاف؛ بأن يؤمن بجميع الرسل وبجميع ما أنزل إليهم‏.‏ فمن آمن ببعض الرسل وكفر ببعض، أو آمن ببعض ما أنزل الله وكفر ببعض فهو كافر، وهذا حال من بَدَّلَ وكفر من اليهود والنصارى والصابئين؛ فإن / هؤلاء في أصلهم قد يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحًا، فأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون،كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏62‏]‏ ونحوه في المائدة‏.‏

ومنهم من فرَّقَ فآمن ببعض وكفر ببعض، كما قال تعالى ـ عن اليهود ـ‏:‏‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏91‏]‏ الآيات، وقال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ‏أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏150، 151‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ‏}‏ الآيتين ‏[‏البقرة‏:‏136، 137‏]‏، وقال ـ عن المؤمنين ـ‏:‏‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏258‏]‏ وقال‏:‏‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏13‏]‏‏.‏

وذَمَّ الذين تفرقوا واختلفوا في الكتب، وهم الذين يؤمنون ببعض دون بعض، فيكون مع هؤلاء بَعْضٌ ومع هؤلاء بَعْضٌ، كقوله‏:‏ / ‏{‏وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏176‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏159‏]‏‏.‏

 

فصــل

التفريق والتبعيض قد يكون في القَدْر تارة،وقد يكون في الوصف؛ إما في الكَمِّ وإما في الكَيْف، كما قد يكون في التنزيل تارة، وفي التأويل أخرى؛ فإن الموجود له حقيقة موصوفة، وله مقدار محدود، فما أنزل الله على رسله قد يقع التفريق والتبعيض في قدره، وقد يقع في وصفه‏.‏

فالأول مثل قول اليهود‏:‏ نؤمن بما أنزل علي موسى دون ما أنزل على عيسى ومحمد، وهكذا النصارى في إيمانهم بالمسيح دون محمد، فمن آمن ببعض الرسل والكتب دون بعض فقد دخل في هذا؛ فإنه لم يؤمن بجميع المنزل، وكذلك من كان من المنتسبين إلى هذه الأمة يؤمن / ببعض نصوص الكتاب والسنة دون بعض؛ فإن البدع مشتقة من الكفر‏.‏

وأما الوصف، فمثل اختلاف اليهود والنصارى في المسيح‏:‏ هؤلاء قالوا‏:‏ إنه عبد مخلوق، لكن جحدوا نبوته وقدحوا في نسبه، وهؤلاء أقروا بنبوته ورسالته، ولكن قالوا‏:‏ هو الله، فاختلف الطائفتان في وصفه وصفته، كل طائفة بحق وباطل‏.‏

ومثل الصابئة الفلاسفة؛ الذين يصفون إنزال الله على رسله بوصف، بعضه حق وبعضه باطل؛ مثل أن يقولوا‏:‏ إن الرسل تجب طاعتهم، ويجوز أن يسمى ما أتوا به كلام الله، لكنه إنما أنزل على قلوبهم من الروح ـ الذي هو العقل الفعال في السماء الدنيا ـ لا من عند الله، وهكذا ما ينزل على قلوب غيرهم هو أيضًا كذلك، وليس بكلام الله في الحقيقة، وإنما هذا في الحقيقة كلام النبى صلى الله عليه وسلم، وأنه سمى كلام الله مجازًا‏.‏ فهؤلاء ـ أيضًا ـ مبعضين مفرقين؛ حيث صدقوا ببعض صفات ما أنزل الله وبعض صفات رسله دون بعض، وربما كان ما كفروا به من الصفات أكثر مما آمنوا به، كما أن ما كفر به اليهود من الكتاب أكثر وأعظم مما آمنوا به، لكن هؤلاء أكفر من اليهود من وجه، وإن كان اليهود أكفر منهم من وجه آخر‏.‏

/فإن من كان من هؤلاء يهوديا أو نصرانيًا فهو كافر من الجهتين، ومن كان منهم لايوجب اتباع خاتم الرسل، بل يجوز التدين باليهودية والنصرانية فهو أيضًا كافر من الجهتين، فقد يكون أحدهم أكفر من اليهود والنصارى الكافرين بمحمد والقرآن، وقد يكون اليهود والنصارى أكفر ممن آمن منهم بأكثر صفات ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، لكنهم في الأصل أكفر من جنس اليهود والنصارى؛ فإن أولئك مقرُّون في الأصل بكمال الرسالة والنبوة، وهؤلاء ليسوا مقرين بكمال الرسالة والنبوة‏.‏ كما أن من كان قديمًا مؤمنًا من اليهود والنصارى صالحًا فهو أفضل ممن كان منهم مؤمنًا صالحًا،وكذلك من كان من المنتسبين إلى الإسلام مؤمنًا ببعض صفات القرآن، وكلام الله وتنزيله على رسله، وصفات رسله دون بعض، فنسبته إلى هؤلاء كنسبة من آمن ببعض نصوص الكتاب والسنة دون بعض إلى اليهود والنصارى‏.‏

ومن هنا تتبين الضلالات المبتدعة في هذه الأمة، حيث هي من الإيمان ببعض ما جاء به الرسول دون بعض، وإما ببعض صفات التكليم والرسالة والنبوة دون بعض، وكلاهما إما في التنزيل وإما في التأويل‏.‏

/ فصــل

والسبب الذي أوقع هؤلاء في الكفر ببعض ما أنزله هو من جنس ما أوقع الأوَّلين في الكفر بجميع ما أنزل الله في كثير من المواضع؛ فإن مـن تأمَّل وَجَدَ شُبَه اليهـود والنصارى ومن تبعهم من الصابئين في الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هي من جنس شُبَه المشركين والمجوس، ومن معهم من الصابئين في الكفر بجنس الكتاب، وبما أنزل الله على رسله في كثير من المواضع؛ فإنهم يعترضون على آياته، وعلى الكتاب الذي أنزل معه، وعلى الشريعة التي بعث بها، وعلى سيرته، بنحو مما اعترض به على سائر الرسل؛ مثل موسى وعيسى، كما قال الله تعالى ـ في جميعهم ـ‏:‏ ‏{‏مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏4، 5‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏34 ،53‏]‏ وفي الآية الأخرى‏:‏‏{‏إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏56‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏69 ،70‏]‏‏.‏

/هذا مع أن السلطان الذي أيد الله به رسوله من أنواع الحجج المعجزات، وأنواع القدر الباهرات، أعظم مما أيد به غيره، ونبوته هي التي طبق نورها مشارق الأرض ومغاربها، وبه ثبتت نبوات من تَقَدَّمَه، وتبين الحق من الباطل، وإلا فلولا رسالته لكان الناس في ظلمات بعضها فوق بعض، وأمر مَرِيج ‏[‏أي‏:‏ مختلط‏]‏، يؤفك عنه من أفك؛ الكتابيون منهم والأميون؛ ولهذا لما كان ما يقال له إلا ما قد قيل للرسل من قبله، أمره الله ـ سبحانه ـ باستشهاد أهل الكتاب على مثل ما جاء به‏.‏

وهذا من بعض حكمة إقرارهم بالجزية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏94‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كَفي بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏43‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏43، 44‏]‏،وفي الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ‏}‏ الآية ‏[‏الأنبياء‏:‏7، 8‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏10‏]‏‏.‏

وجماع شبه هؤلاء الكفار‏:‏ أنهم قاسوا الرسول على من فرق الله بينه وبينه، وكفروا بفضل الله الذي اختص به رسله، فأتوا من / جهة القياس الفاسد‏.‏ ولابد في القياس من قدر مشترك بين المشبه والمشبه به؛ مثل جنس الوحي والتنزيل؛ فإن الشياطين ينزلون على أوليائهم ويوحون إليهم، كقوله ‏{‏وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏121‏]‏، وقال سبحانه‏:‏‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221 ـ 223‏]‏‏.‏

وقال ـ تعالى ـ في الـ ‏{‏طس‏}‏ وقد افتتح كلا منهن بقصة موسى وتكليم الله إياه، وإرساله إلى فرعون، فإنها أعظم القصص كما قدمناه، فقال في سورة الشعراء المحتوية على قصص المرسلين واحدًا بعد واحد، وهي سبع؛قصة موسى، وإبراهيم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، ثم قال عن القرآن‏:‏‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏192، 193‏]‏ إلى قوله‏:‏‏{‏وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏226‏]‏ فذكر الفرق بينه وبين من تنزل عليه الشياطين من الكهان والمتنبئين ونحوهم، وبين الشعراء؛ لأن الكاهن قد يخبر بغيب بكلام مسجوع، والشاعرـ أيضًا ـ يأتي بكلام منظوم يحرك به النفوس؛ فإن قرين الشيطان مادته من الشيطان، ويعين الشيطان بكذبه وفجوره، والشاعر مادته من نفسه، وربما أعانه الشيطان‏.‏

فأخبر أن الشياطين إنما تنزل على من يناسبها، وهو الكاذب في قوله، الفاجر في عمله، بخلاف الصادق البر، وأن الشعراء إنما يحركون / النفوس إلى أهوائها فيتبعهم الغاوون، وهم الذين يتبعون الأهواء، وشهوات الغي، فنفي كلا منهما بانتفاء لازمه، وبين ما يجتمع فيه شياطين الإنس والجن‏.‏

 

فصــل

إذا تبين هذا الأصل، ظهر به اشتقاق البدع من الكفر، فنقول‏:‏ كما أن الذين أثنى الله عليهم من الذين هادوا والنصارى كانوا مسلمين مؤمنين، لم يبدلوا ما أنزل الله، ولا كفروا بشيء مما أنزل الله، وكان اليهود والنصارى صاروا كفارًا من جهة تبديلهم لما أنزل الله، ومن جهة كفرهم بما أنزل على محمد، فكذلك الصابئة صاروا كفارًا من جهة تبديلهم لما أنزل الله، ومن جهة كفرهم بما أنزل الله على محمد، وإن كانوا منافقين كما قد ينافق اليهودي والنصراني‏.‏ و هؤلاء هم المستأخرون من اليهود والنصارى والصابئين‏.‏

وذلك أن متأخري الصابئين لم يؤمنوا أن لله كلامًا أو يتكلم،ويقول، أو أنه ينزل من عنده كلامًا وذكرا على أحد من البشر، أو أنه يكلم أحدًا من البشر، بل عندهم لا يوصف الله بصفة ثبوتية، لا يقولون‏:‏ إن له علمًا، ولا محبة ولا رحمة، وينكرون أن يكون /الله اتخذ إبراهيم خليلًا، أو كلم موسى تكليمًا، وإنما يوصف عندهم بالسَّلْبِ والنَّفْي، مثل قولهم‏:‏ ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا داخل العالم ولا خارجه، أو بإضافة، مثل كونه مبدأ للعالم أو العلة الأولى، أو بصفة مركبة من السلب والإضافة؛ مثل كونه عاقلا ومعقولا وعقلا‏.‏

وعندهم أن الله لا يخص موسى بالتكليم دون غيره، ولا يخص محمدًا بإرسال دون غيره، فإنهم لا يثبتون له علمًا مفصلا للمعلومات، فضلا عن إرادة تفصيلية، بل يثبتون ـ إذا أثبتوا ـ له علمًا جمليًا كليًا، وغاية جملية كلية، ومن أثبت النبوة منهم قال‏:‏ إنها فيض تفيض على نفس النبي من جنس ما يفيض على سائر النفوس، لكن استعداد النبي صلى الله عليه وسلم أكمل، بحيث يعلم ما لا يعلمه غيره، ويسمع ما لا يسمع غيره، ويبصر ما لا يبصر غيره، وتقدر نفسه على ما لا تقدر عليه نفس غيره‏.‏

والكلام الذي تقوله الأنبياء هو كلامهم وقولهم، وهؤلاء الذين يقولون عن القرآن‏:‏‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏25‏]‏، فإن الوحيد الذي هو الوليد بن المغيرة كان من جنسهم؛ كان من المشركين الذين هم صابئون أيضًا؛ فـإن الصابئين ـ كأهـل الكتاب ـ تارة يجعلهم الله قسمًا من المشركين، وتارة يجعلهم الله قسيمًا لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}

‏[‏البينة‏:‏1‏]‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏6‏]‏‏.‏

وكذلك لما ذكر الملل الست في الحج فقال‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا‏}‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏17‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏31‏]‏، وهذا بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏30 ـ 32‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏72‏]‏، فإذا كان اليهود والنصارى قد يكونون مشركين فالصابئون أولى، وذلك بعد تبديلهم، فحيث وصفوا بالشرك فبعد التبديل، وحيث جعلوا غير مشركين فلأن أصل دينهم الصحيح ليس فيه شرك، فالشرك مبتدع عندهم، فينبغى التفطن لهذه المعاني‏.‏

وكان الوحيد من ذوي الرأي والقياس والتدبير من العرب، وهو معدود من حكمائهم وفلاسفتهم‏.‏

ولهذا أخبر الله عنه بمثل حال المتفلسفة في قوله‏:‏‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏18-25‏]‏‏.‏

/ثم إن هؤلاء فيما تقوله الأنبياء حيارى متهوكون؛ فإنه بَهَرَهُمْ نور النبوة، ولم تقع على أصولهم الفاسدة، فصاروا على أنحاء؛ منهم من لا يؤمن بكثير مما تقوله الأنبياء والمرسلون، بل يعرض عنه أو يشك فيه أو يكذب به، ومنهم من يقول‏:‏ يجوز الكذب لمصلحة راجحة، والأنبياء فعلوا ذلك، ومنهم من يقول‏:‏ يجوز هذا لصالح العامة دون الخاصة، وأمثلهم من يقول‏:‏ بل هذه تخيلات وأمثلة مضروبة لتقريب الحقائق إلى قلوب العامة، وهذه طريقة الفارابي، وابن سينا، لكن ابن سينا أقرب إلي الإيمان من بعض الوجوه، وإن لم يكن مؤمنًا‏.‏

فمن أدركته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبهرته براهينها وأنوارها ورأى ما فيها من أصناف العلوم النافعة، والأعمال الصالحة ـ حتى قال ابن سينا‏:‏ اتفق فلاسفة العالم على أنه لم يطرق العالم ناموس أفضل من هذا الناموس ـ فلابد أن يتأول نصوص الكتاب والسنة على عادة إخوانه في تحريف الكلم عن مواضعه، فيحرفون ما أخبرت به الرسل عن كلام الله، تحريفًا يصيرون به كفارًا ببعض تأويل الكتاب في بعض صفات تنزيله‏.‏

فلما رأوا أن الرسل سَمَّتْ هذا الكلام كلام الله، وأخبرت أنه نزلت به ملائكة الله، مثل الروح الأمين جبريل ـ أطلقت هذه / العبارة في الظاهر، وكفرت بمعناها في الباطن، وردوها إلى أصلهم أصل الصابئين، وصاروا منافقين في المسلمين وفي غيرهم من أهل الملل‏.‏

فيقولون‏:‏ هذا القرآن كلام الله، وهذا الذي جاءت به الرسل كلام الله، ولكن المعنى‏:‏ أنه فاض على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من العقل الفَعَّال، وربما قالوا‏:‏ إن العقل هو جبريل، الذي ليس على الغيب بضنين، أي بخيل؛ لأنه فياض‏.‏ ويقولون‏:‏ إن الله كلم موسى من سماء عقله، وإن أهل الرياضة والصفا يصلون إلى أن يسمعوا ما سمعه موسى كما سمعه موسى‏.‏

وقد ضل بكلامه كثير من المشهورين، مثل أبي حامد الغزالي، ذكر هذا المعنى في بعض كتبه، وصنفوا ‏[‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ وغيرها، وجمعوا فيها على زعمهم بين مقالات الصابئة المتأخرين التي هي الفلسفة المبتدعة، وبين ما جاءت به الرسل عن الله، فأتوا بما زعموا أنه معقول ولا دليل على كثير منه، وربما ذكروا أنه منقول‏.‏ وفيه من الكذب والتحريف أمر عظيم، وإنما يضلون به كثيرًا بما فيه من الأمور الطبيعية‏.‏ والرياضية، التي لا تعلق لها بأمر النبوات والرسالة لا بنفي ولا بإثبات، ولكن ينتفع بها في مصالح الدنيا؛ كالصناعات من الحراثة والحياكة، والبناية والخياطة ونحو ذلك‏.‏

/فإذا عرف أن حقيقة قول هؤلاء المشركية الصابئة، أن القرآن قول البشر كغيره، لكنه أفضل من غيره، كما أن بعض البشر أفضل من بعض، وأنه فاض على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من المحل الأعلى كما تفيض سائر العلوم والمعارف على نفوس أهلها، فاعلم أن هذا القول كثر في كثير من المتأخرين المظهرين للإسلام، وهم منافقون وزنادقة، وإن ادعوا كمال المعارف من المتفلسفة والمتكلمة، والمتصوفة والمتفقهين، حتى يقول أحدهم ـ كالتلمساني ـ‏:‏ كلامنا يوصل إلى الله والقرآن يوصل إلى الجنة، وقد يقول بعضهم ـ كابن عربي ـ‏:‏ إن الولي يأخذ من حيث ما يأخذ الملك الذي يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويقول كثير منهم‏:‏ إن القرآن للعامة، وكلامنا للخاصة‏.‏

فهؤلاء جعلوا القرآن عَضِين ‏[‏أي‏:‏ أجزاء متفرقة، بعضه شعر، وبعضه سحر، وبعضه كهانة، ونحو ذلك‏]‏، وضربوا له الأمثال؛ مثل ما فعل المشركون قبلهم، كما فعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن هؤلاء منهم من يفضل الولى الكامل والفيلسوف الكامل على النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يفضل بعض الأولياء على زعمه، أو بعض الفلاسفة‏:‏ـ مثل نفسه أو شيخه أو متبوعه ـ على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وربما قالوا‏:‏ هو أفضل من وجه، والنبي أفضل من وجه، فلهم من الإلحاد والافتراء في رسل الله نظير ما لهم من الإلحاد والافتراء في رسالات الله، فيقيسون الكلام الذي بلغته الرسل عن الله بكلامهم، ويقيسون رسل الله بأنفسهم‏.‏

وقد بين الله حال هؤلاء في مثل قوله‏:‏‏{‏وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ‏}‏ إلى أن قال‏:‏‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏91-93‏]‏ فذكر الله إنزال الكتابين، اللذين لم ينزل من عند الله كتاب أهدى منهما ـ التوراة والقرآن ـ كما جمع بينهما في قوله‏:‏‏{‏قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏48، 49‏]‏‏.‏

وكذلك الجن لما استمعت القرآن ‏{‏قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى‏}‏ الآية ‏[‏الأحقاف‏:‏30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏10‏]‏؛ ولهذا قال النجاشي ـ لما سمع القرآن ـ‏:‏ إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مِشْكاة واحدة‏.‏

ثم ذكر ـ تعالى ـ حال الكذاب والمتنبئ، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏93‏]‏ فجمع في هذا بين من أضاف ما يفتريه إلى الله، وبين من يزعم أنه يوحى إليه ولا يعين من أوحاه؛ فإن الذي يدعي الوحي لا يخرج عن هذين القسمين‏.‏

ويدخل في ‏[‏القسم الثاني‏]‏ من يُرِي عينيه في المنام ما لا تريا، / ومن يقول‏:‏ ألقى في قلبي وألهمت ونحو ذلك، إذا كان كاذبًا‏.‏

ويدخل في ‏[‏القسم الأول‏]‏ من يقول‏:‏ قال الله لي، أو أمرني الله، أو وافقني، أو قال لي ونحو ذلك، بخيالات أو إلهامات يجدها في نفسه، ولا يعلم أنها من عند الله، بل قد يعلم أنها من الشيطان، مثل مُسَيْلَمَة الكذاب ونحوه، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏93‏]‏، فهذه حال من زعم أن البشر يمكنهم أن يأتوا بمثل كلام الله، أو أن هذا الكلام كلام البشر بفضيلة وقوة من صاحبه، فإذا اجتهد المرء أمكن أن يأتي بمثله‏.‏ وهذا يعم من قال‏:‏ إنه يمكن معارضة القرآن، كابن أبي سرح في حال ردته، وطائفة متفرقين من الناس، ويعم المتفلسفة الصابئة المنافقين والكافرين، ممن يزعم أن رسالة الأنبياء كلام فاض عليهم قد يفيض على غيرهم مثله، فيكون قد أنزل مثل ما أنزل الله في دعوى الرسل؛ لأن القائل‏:‏ سأنزل مثل ما أنزل الله، قد يقوله غير معتقد أن الله أنزل شيئًا، وقد يقوله معتقدًا أن الله أنزل شيئًا‏.‏

 

فصــل

ولهذا كان أول من أظهر إنكار التكليم والمخالة الجَعْد بن درهم، في أوائل المائة الثانية، وأمر علماء الإسلام ـ كالحسن البصري وغيره ـ / بقتله؛ فضَحَّى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق بـ ‏[‏واسط‏]‏‏.‏ فقال‏:‏ أيها الناس، ضَحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليمًا‏!‏ تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرًا‏.‏ ثم نزل فذبحه‏.‏ وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان، فأنكر أن يكون الله يتكلم، ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام، وقال‏:‏ كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر‏.‏

ودخل بعض أهل الكلام والجدل من المنتسبين إلى الإسلام من المعتزلة ونحوهم إلى بعض مقالة الصابئة والمشركين، متابعة للجعد والجهم‏.‏ وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في ‏[‏الخلق‏]‏ على قولين‏:‏ منهم من يقول‏:‏ إن السموات مخلوقة بعد أن لم تكن، كما أخبرت بذلك الرسل، وكتب الله ـ تعالى ـ ومنهم من ابتدع فقال‏:‏ بل هي قديمة أزلية، لم تزل موجودة بوجود الأول، واجب الوجود بنفسه، ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية، ولهم مقالات كثيرة الاضطراب في الخلق والبعث، والمبدأ والمعاد؛ لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبل الله ـ تعالى ـ فيجمعهم‏.‏ والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور التي تعجز الآراء عن إدراك حقائقها إلا بوحي من الله ـ تعالى‏.‏

وهم إنما يناظر بعضهم بعضًا بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية، وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء، والهواء / والحيوان، والمعدن والنبات، ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله وعلم ما فوق السموات، وأول الأمر وآخره؛ وهذا غلط بين اعترف به أساطينهم بأن هذا غير ممكن، وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين، وأنهم إن يتبعون إلا الظن‏.‏

فلما كان هذا حال هذه الصابئة المبتدعة الضالة،ومن أضلوه من اليهود والنصارى، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهد بهدى الله، الذي بعث به رسله،من أهل الكلام والجدل، صاروا يريدون أن يأخذوا مأخذهم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع‏)‏ قالوا‏:‏يا رسول الله، فارس والروم‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن الناس إلا فارس والروم‏؟‏‏!‏‏)‏ فاحتجوا على حدوث العالم بنحو من مسالك هذه الصابئة، وهو الكلام في الأجسام والأعراض، بأن تثبت الأعراض ثم يثبت لزومها للأجسام ثم حدوثها، ثم يقال‏:‏ ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم، فلما رأوا أن الأعراض ـ التي هي الصفات ـ تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض التزموا نفيها عن الله؛ لأن ثبوتها مستلزم حدوثه، وبطلان دليل حدوث العالم ـ الذي اعتقدوا ألا دليل سواه، بل ربما اعتقدوا أنه لا يصح إيمان أحد إلا به ـ معلوم بالاضطرار من دين الإسلام‏.‏

/وهؤلاء يخالفون ‏[‏الصابئة الفلاسفة‏]‏ الذين يقولون بقدم العالم، وبأن النبوة كمال تفيض على نفس النبي؛ لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقا، وأتبع للأدلة العقلية والسمعية لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن، وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاءت به الرسل؛ لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها أهل السنة فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم، كما وافقوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات، ورأوا أن إثباته متكلما يقتضى أن يكون جسما، والجسم حادث؛ لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف، بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره؛بل الله يفتقر من الخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره؛ ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره؛ ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم والقرآن مملوء بإثبات ذلك صاروا تارة يقولون متكلم مجازًا لا حقيقة، وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة، قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود‏.‏

ثم إنهم رأوا أن هذا شنيعٌ، فقالوا‏:‏ بل هو متكلم حقيقة، وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع وليس عندهم كذلك، بل حقيقة قولهم وأصله عند من عرفه وابتدعه أن الله ليس بمتكلم، وقالوا‏:‏ المتكلم من فعل الكلام ولو في محل منفصل عنه؛ ففسروا المتكلم في اللغة / بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم؛ لا حقيقة ولا مجازًا، وهذا قول من يقول‏:‏ إن القرآن مخلوق، وهو أحد قولي الصابئة يوافقون الرسل في حدوث العالم، وهو وإن كان كفرًا بما جاءت به الرسل فليس هو في الكفر مثل القول الأول؛ لأن هؤلاء لا يقولون‏:‏ إن الله أراد أن يبعث رسولا معينًا، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه، وأنكروا أن يكون متكلما على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة‏.‏

ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة، وبين المؤمنين أتباع الرسل الخلاف، فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم، واختلفوا في كتاب الله، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض‏.‏

واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم، من أن الله تكلم بالقرآن، وأنه كلم موسى تكليما، وأنه يتكلم، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الأولون، بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان، الذي علموا به مراد الرسل من إخبارهم برسالة الله وكلامه، واتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء، وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى، حتى كان ابن المبارك- إمام المسلمين ـ يقول‏:‏ إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية‏.‏

/وكان قد كثر ظهور هؤلاء، الذين هم فروع المشركين ومن اتبعهم من مبدلة الصابئين، ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية، وأوائل الثالثة في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون، بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين، الذين كانوا قبل النصارى،ومن أشبههم من فارس والهند، وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم‏.‏

وقدم تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين، كما يقال‏:‏ المعتزلة مخانيث الفلاسفة‏.‏ فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام، وفي أهل السيف والإمارة، وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء، والوزراء والقضاة، والفقهاء ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولم يبدلوا ولم يبتدعوا، وذلك لقصور وتفريط من أكثرهم في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول واتباعه، وإلا فلو كان ذلك كثيرًا فيهم لم يتمكن أولئك المبتدعة لما يخالف دين الإسلام من التمكن منهم‏.‏